09 فبراير 2022

سيميوطيقا الكذب

تستعمل اللغة العربية ترسانة من الكلمات للدلالة على ظاهرة الكذب التي لازمت الإنسان عبر التاريخ، منذ أساطير الأولين، وصولا إلى الأساطير الحديثة والمعاصرة، مرورا بأساطير القرون الوسطى وأساطير العصر الوسيط العربي الإسلامي.

وضمن هذه الترسانة: الخِدَاع، الغِشّ، الوَلْس، الإخْتِلاق، إالإِفْتِئَات، الإِفْتِراء، الإِفْك، الباطِل، البَهِيتَة، البُطْل، البُهْتان، التضْلِيل، التَخَرُّص، التَدْجِيل، التَزْوِير، التَزْيِيف، التَلْفِيق، الجَهَالَة، الخِداع، الدَجَل، الزور، الزَعْم، الضَلاَل، الضَلاَلَة، العَضِيهَة، العِضَة، الغِرّ، الغِوَايَة، الفَجْر، الفَنَد، الفِرْيَة، المَكْر، المَيْن، المُخَاتَلَة، المُخَادَعَة، المُدَاهَنَة، النِفَاق، الهِتْر، الوَكْع، الإِثْم، الذَّنْب، الأَفُوك، الأَلْس، الجُنُون، الغَدْر، الإِنْمال، النَّمِيمَة، الإِفْسَاد، الضَلاَل، الشَرّ، البَرْقَلَة، البَشْك، الإِسْرَاع، الضَيَاع، الفَسَاد، البَطِيط، العَجَب، البُقَر، المُصِيبَة، الخَرص، التَدْجِيل، الدَجْل،... ومن الأكيد أن ترادف هذه الكلمات لا يعني استخالة التمييز بين معانيها ودلالاتها.
لا يدل الكذب عموما على الخطأ والغلط، فبإمكاننا، حسب ما يقول جاك دريدا، أن نخطئ أو نغلط دون أن نكون قد كذبنا، وقد يحدث أن نمدّ الآخرين بمعلومات خاطئة، دون أن يعني ذلك أننا قد كذبنا عليهم. فعندما ننطق بأقوال خاطئة أو مغلوطة ونحن نعتقد أنها صحيحة، ونوصلها إلى الآخرين دون أن نقصد خداعهم، فنحن لا نكذب. فلا يكفي أن نصرح بأقوال أو نعبر عن أفكار وآراء خاطئة نعتقد على الأقل، في قرارة أنفسنا أنها صحيحة لنكون كاذبين.

وعليه، يوائم التطرق إلى مسألة النية أو النية الحسنة، والتي سبق لـلقديس أغسطين أن أومأ إليها في افتتاحيته لرسالته التي تحمل عنوان: في الكذب. فهو يقترح التمييز بين الاعتقاد والاقتناع؛ ويكتسب هذا التمييز يكتسب في منظورنا اليوم وبصفة متجددة أهمية قصوى.
يتضمن الكذب على الآخرين الرغبة في خداعهم، وذلك حتى إذا كانت أقوالنا حقة. والحال أنه بإمكاننا أن ننطق بأقوال خاطئة، دون أن نكون كاذبين، وأن نقول أقوالًا حقّة الهدف منها خداع الآخرين ونكون آنذاك كاذبين.
وعندما نعتقد أن ما نقوله صحيح ونؤمن به، فلا يمكن أن نكون كاذبين، حتى في حالة كون أقوالنا خاطئة. فعندما يؤكد القديس أغسطين بأنه “إذا قال أحد قولًا يعتقد أنه صحيح، أو هو على اقتناع بأنه حق، فهو لا يكذب.
الكذب قول غير صادق بنية الخداع والتضليل. وتدل الكلمة على جميع الأفكار والمعتقدات والممارسات التي يعتبرها الناس، ضمن مجتمع محدد، خاطئة أو كاذبة بهدف التضليل والخداع والإضلال، أي جميع الأمور غير الموائمة كي تصير موضوعا للتحقق منها أو موضوعا لمعرفة مؤكدة.
تاريخيا، شكلت الحقيقة الوسيلة التي استعملها الناس في أفق التمييز بين المقبول وغير المقبول اجتماعيا. وترتيبا على ذلك، تواطأ الجميع على أن كل ما هو كاذب يشكل موضوع لامبالاة وعداء ونفور. غير أن التاريخ يذكرنا أن الأمور لم تكن دائما على هذا النحو؛ إذ بجانب الذين ازدروا الأكاذيب وانتقدوها وأدانوها، وجد دوما من يصدقها ويستسلم لسلطة غوايتها، بل هناك من انتسب طوعا للأفكار والمعتقدات والممارسات الكاذبة.
ويصدق هذا كذلك على الحقبة الحديثة والمعاصرة؛ إذ برغم مظاهرها العقلانية والتشكيكية، فهي مغمورة تحت أمواج عاتية من الأكاذيب والأغاليط.
وأمام هذا الوضع، يناسب تماما طرح هذه الطائفة من الأسئلة: من أين تستمد الأكاذيب سلطتها؟ كيف يؤسس الكذب قدرته على تشكيل فيالق من المؤمنين والمريدين والأتباع؟ ما السبيل إلى إنتاج معرفة علمية بقدرة الكذب على الاسترار والديمومة والصمود في وجه جميع حملات تفنيده وتقويض بهرجته؟ ما الوسائل التي يستعملها خطاب الكذب؟ هل يمكن بناء نظرية لشفرات هذا الخطاب؟ وحين اعتبار الكذب فعلا دلائليا sémiotique، فهل يمكن تشييد نظريته السيميوطيقية؟ علما أن سؤال المرجع réfèrent لا ينطرح إطلاقا في تحديد هذا النمط من التدلال sémiosis، كما هو غير وارد حين التفكير في بناء تصنيف لأجناس خطاب الأكاذيب، منذ أكذوبة أهل الكهف، وصولا إلى جميع الأكاذيب الحديثة التي فكرت فيها حنة آرندت تفكيرا سياسيا في مداخلتها اللامعة عن السياسة والكذب، وأرخ لها جاك دريدا في سطور كتابه: تاريخ الكذب (2012)، وحلل بعضا منها أمبرتو إيكو ضمن مداخلاته عن قوة الكذب، وقارب البعض الآخر رولان بارط ضمن كتابه: أساطيريات...؟
تلكم بعض الأسئلة التي ستشكل مدار اللقاء المفتوح مع الزميل الأستاذ يوسف أيت همو الذي يستضيفه طلبة ماستر النقد القديم أنساقه ومناهجه ومختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف في لقاء مفتوح للحديث بصدد سيميوطيقا الكذب، ضمن برنامج: أحاديث الأربعاء؛ وذلك يوم الأربعاء 9 فبراير 2022 ابتداء من الثالثة بعد الزوال في رحاب كلية الآداب - جامعة القاضي عياض...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2018 حصاد