مع سعيد بنكراد... ومن أجل سعيد بنكراد...
خطوة أخرى على طريق ترسيخ ثقافة الاعتـراف
مثلت بدايات الثمانيات -وما أعقبها- لـحظة مشرقة في
تاريخ الحقل الجامعي المغربي، لأنها عرفت الانطلاقة الأكاديمية الفعلية لأقطاب كثيـرة،
تحفزها رغبة أكيدة في توسعة الـخارطة الجامعية بالمغرب الحديث، بعد أن كانت مقتصرة
على مدينتـي الرباط وفاس، لكن أيضا بطموح
كبيـر وأحلام واعدة بالنـهوض العلمي والثقافي، وحرص سياسي واضح - و ضروري، بمعنـى
طبيعي- على خلق توزان مجالي في العرض الجامعي، وهو ما تعزز وتقوى بالعودة اللافتة
لعديد من الباحثيـن الشباب المغاربة الذين وَلَّوا شغفهم العلمي شطر كبـريات
الجامعات الغربية، وفتحت أمامهم أبواب الكليات والمعاهد العليا للتدريس والبحث
فيها، وللإسهام في تكوين أجيال من الطالبات والطلبة بنقل خبـراتهم العلمية لهم،
وتطوير أنشطتهم التربوية في ظلال شغبـهم الطلابي وتعطشهم المعرفي...
من ثمة، كانت الجامعة المغربية مدينة في كثيـر من
منجزاتها إلى هذا الرعيل الأول المؤسس في بدايات الثمانينات، ولم يكن، والأمر كذلك،
أن يختار عبثا أو مصادفة مختبـر تحليل الخطاب وأنساق المعارف - مباشرة بعد اعتماده
الأكاديمي- الوقوف مع رواد تلك المرحلة وأعلامـها ليكشف – ويوثق في آن واحد- طبيعة
جـهودهم ونوعية اجتـهاداتهم، لاسيما في مجال علوم اللسان والإنسان التـي عرفت
وقتئذ طَفْرَةً نظرية ومنـهـجية كبيـرة في الغرب، أدت إلى اتساع مجالاتها وتعدد
أسئلتـها وتنامي مشاريعـها، فكانت البداية أولا مع اللساني والـمتـرجم المغربي
الكبيـر الأستاذ الدكتور محمد بن الرافه البكري الذي خصص له الـمختبـر أول
مؤتمر تكريمي له، وهو مؤتمر تمت فيه استعادة : ده صوسير من جديد لـمساءلة
مشروعه اللساني بعد مائة عام من الغياب، والتحقق من جملة الطروحات والأفكار
التـي دارت حول محاضراته في اللسانيات العامة، ولبيان كيفية إسهام جامـعي
مغربي في الإحاطة بفكره ومنجزه بالرغم من كل ما شاب تلك المحاضرات العامة
من عيوب أفقدت كثيـرا من خلاصاتها الصِّدْقِيَةَ.
ولئـن كان المختبـر قد أصدر أشغال ذلك المؤتمر في كتاب
بعنوان: العودة إلى سوسير عام 2017، وحاز بذلك سبقا أكاديميا وعلميا اعتـرف
له به عربيا وعالميا، فقد كان المؤتمر في ذاته عودة عبـرت من فكر صوسير ومنجزه،
ومن إسهام الأستاذ محمد البكري الذي أمضى حوالي ربع قرن في رحاب كلية الآداب
والعلوم الإنسانية بمراكش يحذر من منـزلق التركيـز على طروحاته اللسانية، وإغفال
تصوراته الدلائلية ونظراته السيميائية، وهو ما شكل موضوع محاضراته ومؤلفاته
وترجماته طيلة تلك الـمدة.
وترسيخا لقيمة العودة إلى الأصول وضرورة تجديد النظر فيـها،
وتأكيدا للأهمية العلمية والمنهجية للانتقال من اللساني إلى الدلائلي، مع ضرورة
الوعي بمجمل التنويعات والجهود النظرية والتطبيقية المصاحبة لها، اختار مختبر
تحليل الخطاب وأنساق المعارف أن يتولى تقديم المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر التكريمي
للأستاذ محمد بن الرافة البكري: "ده صوسير بعد مائة عام من الغياب"
صبيحة يوم 13 أبريل 2017 زميله ورفيقه السيميائي المغربي العربي الكبيـر الأستاذ سعيد
بنكراد، وذلك لأن الرجليـن معا منشغلان بالمجال نفسه، وأن كل واحد منهما ينظر
إليه من ضفة وزاوية مغايرتيـن: إذ يعنـى الأستاذ البكري بالنظر إليه من خـلال الـمدرسة
الصوسيـرية، بينما انشغل الأستاذ سعيد بنكراد بمقاربته من زاوية المدرسة
الأمريكية كما تحددت مع شارل صاندرس پورس.
وبقدر ما كانت الـمحاضرة مناسبة للوقوف تحت الظلال الوارفة لقمتيـن علميتيـن بالدرس الأكاديمـي الـمغربي الـحديث، وفرصة للعودة إلى قامتيـن علميتيـن كبيرتيـن في حـقل الدلائليات (السيميائيات)، مثلت كذلك لـحظة للعبور... والنظر... وتجديد السؤال...
وحرصا على تعميق النظر ومزيد فحص الأسئلة والتحديات التـي تواجه الذات أثناء تدلالها، أي في سعـيـها لإنتاج "المعنـى والدلالة"، أعلن المختبـر بعد انتهاء أشغال مؤتمره أنه يستعد لتنظيم مؤتمر تكريمـي للأستاذ سعيد بنكراد، موضوعه: سلطة المعرفة ومعرفة السلطة، وذلك يومي 21-22 دجنبـر 2017؛ وفيه أُسنِدَت للدكتور محمد البكري إدارة جلسته الافتتاحية التـي تمفصلت علـى موضوع: السيميائيات وقضايا التأويل، تعميقا للنقاش وتمديدا وتدقيقا له...
بينما دارات مداخلات المؤتمرين
حول إسهام الرجل في تطوير الدرس السيميائي في الـجامعة المغربية خاصة والعربية
عامة.
والـحقيقة أن الـحديث عن الأستاذ سعيد بنكراد
وتخصيص لـحظة احتفائية بمنجزه العلمـي الكبير ليس بالأمر الـهيِّـن؛ لأن اسم
الرجل تأسس سلطة معرفية في ربوع العالم العربي، وذلك عبـر عديد الدراسات والأبحاث التي أنتجها مفتشا
فيها ومن خـلالها عن أنساق ومعاني ودلالات السلطة بمختلف تنويعاتها: الدينية
والسياسية والثقافية والأسلوبية والإشهارية والسردية – التخييلية، مضافا إليها
أنساق الأهواء والغواية. وقد انخرط في هذا المسعى مسلـحا بتجربة سياسية ونقابية
غنية، وبتكوين معرفي رصيـن وعميق تام البـهاء والوضوح؛ واعتبارا لذلك، يوائم القول
إن سعيد بنكراد عاش حياة حافلة ومثمرة في الممر بين العلم والسياسة، بين المعرفة
والسلطة؛ إذ أخذت مشاغله واهتماماته في الانبناء بوصفها مشروعا أصليا داخل الـحركة
التلاميذية، ثم صقلتـها التجربة في صفوف الـحركة الطلابية وتحت بيارق اليسار
المغربي الـجديد التـي لم تكد ترتفع عاليا حتـى طوتها السلطة فـي الزنازن
أو طوحت بها صوب الـمنافي القسرية والاختيارية.
وفوق أراضـي مونتيسكيو وديدرو وڤولتيـر، تكلل المشروع
الأصلي بأسئلة الأنوار والتنوير والتسامح والـحداثة والتقدم، وغيرها من القيم
النبيلة التـي عاش سعيد بنكراد من أجلها ودفاعا عنها عبر مسالك وبطرائق وعرة،
لكنها أكثـر نبلا: مسالك العلم والمعرفة. وفي هذه المسالك عَبَـرَ وعَبَـرَتْهُ
طائفة من الأسماء- الرموز التي صار رمزا لها وصارت هي أسماء له: فولتير، دافيد
فيكتوروف، أمبرتو إيكو، ميشيل فوكو، بيرنار كاتولا، غي غوتييه، ألجيرادس جوليان
كريماص، فونتيني، پول ريكور، جان مولينو، فرانسوا راستييه، أو ليڤيـي روبول...
وغيرهم كثيـر.
ناضل سعيد بنكراد وساجل وجادل وناظر وحاضر وكتب وترجم،
ضمن الـحدود الرحبة والمتحركة التي أتاحها له سَمْتُهُ Habitus النقابي – السياسـي ورأسماله الـمعرفي- العلمـي الأكاديمـي.
وفي جميع صيغ سعيد بنكراد تلك، ظلت الـمعاني تتوهـج دافقة رقراقة في جداول
التأويل السيميائي، من معنـى الـجنون والهيام إلى دلالة التسامح في الأديان، عبـر
الفسحة في غابات السرد وأدغاله الرمزية؛ ومن معاني الشـخصية في الرواية إلى دلالات
الإشهار والأهواء والغواية؛ ومن فحولة السرود النسائية المستـرجلة إلى إكراهات الـحـجاب
الذكورية العاجلة والآجلة، عبـر مختلف ساحات المعاني وأنساق الدلالات التي لا تنتهـي...
لذلك، ولغيـره مما يمتنع عن الحصر من الاعتبارات،
جـاء تكريم الأستاذ سعيد بنكراد، وهو التكريم الذي لم ينشد به فحسب
مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف تثميـن الـجهود والاحتفاء بها، بل قصد به أيضا
كشف جانب مشرق في تاريخ الجامعة المغربية شيده رجال ذوو كفاءة علمية وقيمة أخلاقية
أخصلوا السيـرة بنظيف السريرة ... فعادوا إلى بلادهم بعد سنوات من الغربة محمليـن
ببيارق العلم لينيـروا بها العقول... والأفئدة... والدروب...
واعترافا للأستاذ سعيد بنكراد بكل ما أسداه... واعتزازا به وبجليل علمه ورفيع أخلاقه ومواقفه ، نسعد اليوم بإعلان صدور البحوث العلمية المحكمة للمؤتمر التكريمي الذي نظم احتفاء به ، ضمن كتاب من الحجم الكبير (400 صفحة)، أشرف على إعداده وتنسيقه أ.د. عبد الجليل بن محمد الأزدي رئيس المؤتمر والمشرف العام على الأنشطة العلمية والثقافية للمختبر وأ.د. يوسف الإدريسي المدير السابق للمختبر (من 2017 إلى صيف 2021 )؛ وتضمن الكتاب البحوث العلمية المحكمة للمؤتمر التي شارك بها ثلة من الباحثين المرموقين في مختلف الجامعات العربية: من المغرب والجزائر وتونس ومصر وفلسطين والسعودية والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، شاكرين في مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف للأستاذ الكريم سعيد بنكراد جميل موافقته وحضوره بيننا، ومقدرين للسيدات والسادة الأساتذة الباحثين المشاركين كريم إسهامهم في إنجاح المؤتمر، وممتنين لعالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع – إربد- الأردن في شخص مديرها الفاضل الأستاذ بلال عبيدات وابنه البار الدكتور أحمد عبيدات على جميل ثقتهم ... وكريم احتضانهم للمشروع العلمـي والأكاديمـي لمختبـر تحليل الـخطاب وأنساق المعارف، ودعمهم الجميل لنتاجاته وتفضلهم بنشرها في مؤسستـهم العتيدة والرائدة .

مراكش 03 أبريـل 2025
عن المختبر